أم البنين صرح التضحية والوفاء
قد ورد في الحديث الشريف إشارات وتنبيهات على ان الرجال قد كمل منهم الكثير، ولم يكمل من النساء إلا القليل، وأم البنين عليها السلام كانت ولا شك ممن كملت محاسنها وترقت فضائلها لتصبح أهلا لان تكون بابا للحوائج يتوجه إليها كل محتاج ومكروب، ولم تكن هذه المنزلة لتتسنى لها من دون سعي شخصي وكدح نحو الكمال والترقي في سلم ودرجات الإيمان ومن دون نشأة حسنة وتربية طاهرة تلقتها من بيتها وأسرتها التي نشأة في ربوعها، ومن دون عناية واهتمام وتربية وتكفل الإمام المعصوم لها، ومن دون رعاية الله سبحانه لها أولا وآخرا، فهي أشبه شيء بمريم ابنة عمران عليها السلام فقد أنبتها الله منبتا حسنا، كما انبت مريم منبتا حسنا، وقد كفلها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما كفل زكريا مريم بنت عمران، واصطفاها لتنجب أربعة أبطال شاركوا أخاهم الحسين عليه السلام نصرته وإحياء شريعة الله سبحانه، بعد ان كادت تموت على يد الأمويين ومن سبقهم من الحكام، كما اصطفى مريم بنت عمران لتنجب نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، الذي أحيا دين الله وشريعته التي أماتتها اليهود وضيعت أحكامها.
أم البنين عليها السلام الولادة والمنشأ
الاسم: فاطمة.
الأب: حزام وهو أبو المحل بن خالد ابن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب.
الأم: ثمامة بنت سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.
وأمّ البنين عليها السلام تنحدر من آباء وأخوال عرفهم التاريخ وعرّفهم بأنّهم فرسان العرب في الجاهليّة، سطّروا على تلك رمال الصحراء الأمجاد المعروفة في المغازي فتركوا الناس يتحدثون عن بسالتهم وسؤددهم، حتّى أذعن لهم الملوك، وهمُ الذين عناهم عقيلُ بن أبي طالب بقوله لأخيه الإمام عليّ سلام الله عليه: (تزوج أم البنين الكلابية فانه ليس في العرب أشجع من آبائها).
اللقب: أم البنين، وقد غلبت كنيتها عليها السلام على اسمها، ولعل ذلك يعود إلى أمرين مهمين:
الأول: لأنّها كُنّيت بـ « أمّ البنين » تشبّهاً بجدّتها ليلى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، حيث كان لها خمسة أبناء أكبرهم أبو براء مُلاعب الأسنّة، وقد قال لبيد الشاعر للنعمان ملك الحيرة مفتخراً بنسبه ومشيراً إليها:
نحن بني أم البنين الأربعة * الضاربون الهام تحت الخيضعة
والمطعمون الجفنة المدعدعة * ونحن خير عامر بن صعصعة
الثاني: هو التماسها أن يقتصر أميرُ المؤمنين عليه السّلام في ندائِه عليها، على الكنية، لئلاّ يتذكّر الحسنانِ عليهما السّلام أمَّهما فاطمة صلوات الله عليها يوم كان يناديها في الدار، إذْ أنّ اسم أمّ البنين كما مر هو فاطمة بنت حزام.
أم البنين تداوي جراح أيتام الزهراء عليها السلام
كان أيتام الزهراء عليها السلام لهم في كل زاوية من زوايا البيت ذكرى تشدهم إلى أمهم الشهيدة، وحيث ما يلتفتون يرون أثرا من آثارها، فهنا كانت تمشط شعر الحسنين وهي تقرأ لهم القران بصوتها الحزين الخاشع، وهناك تروي لبناتها بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعلمهم بعض الأحكام، وهناك كانت تصلي وتدعوا وتسبح وتبكي، وهنا كانت تطبخ وتدير الرحى.
وهنالك مكان بقي عالقا بجميع تفاصيله في أذهان أولاد الزهراء عليها السلام هذا المكان الذي كلما نظر إليه أبناء السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء دمعت عيونهم وخنقتهم العبرة، هذا المكان هو باب الدار وبالتحديد خلف باب الدار، فجميعهم كان شاهدا حين كان أفراد هذا البيت الطاهر عليهم السلام في سكينة من أمرهم وإذا بالناس يجتمعون حول بابهم ثم يعلوا اللغط والصياح شيئا فشيئا، ثم تبدأ طرقات مجنونة تقع على الباب، ويعلو من بينها صياح رجل يهدد بإخراج أمير المؤمنين عليه السلام أو الدخول عنوة إلى الدار وإحراق البيت على من فيه، والأطفال يلوذون تارة خلف أبيهم وأخرى خلف أمهم، وإذا بالباب تدفع دفعا قويا والنار والدخان يتصاعدان منها، وإذا بهم ينظرون إلى أمهم الزهراء عليها السلام تنبري مسرعة خلف الباب عسى ان تمنع القوم من دخول واقتحام الدار بهذه الطريقة البربرية.
فبينما هي تكلمهم وتدفع الباب بيدها وكتفها لتحول دون دفعها وكسرها، فلما أحس القوم بوجودها حشدوا كل ما عندهم من قوة فدفعوا الباب دفعة كسروها وياليتهم اقتصروا على كسر تلك الباب التي كان يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلما مستأذنا قبل الدخول، غير انهم كسروا مع تلك الباب أضلاع البتول عليها السلام، وأطفال الزهراء عليها السلام يستمعون كيف صارت أمهم تستغيث ولا تغاث وتسترحم ولا من راحم، وتستغيث بفضة خادمتها قائلة يا فضة أدركيني فقد والله اسقطوا جنيني.
ولم تقف ذكريات أولاد الزهراء عليها السلام عند هذا الحد فقد استمرت ليروا أباهم واضعا أمهم الزهراء وهي في ريعان الشباب ومقتبل العمر على مغتسلها يقلبها وهو ينظرون وينتظرون في وجل وخوف تلك اللحظات التي ستحمل أمهم من أمام أعينهم لتودع في حفرتها وملحودة قبرها، وتغيب عن نواظرهم، والأوجع لقلوبهم ان الأطفال كل الأطفال إذا ما ماتت أمهم فان باستطاعتهم زيارة قبرها متى ما أرادوا وأحبوا إلا أن أولاد البتول عليها السلام محرومون من هذه الخصلة فلم يكن باستطاعتهم زيارة قبر أمهم إلا في السر وتحت طوق شديد من السرية والتكتم.
في ظل هذه الأحزان والذكريات دخلت السيدة أم البنين عليها السلام دار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فكانت المرأة المواسية والمخففة لآلام وأوجاع قلوب أيتام الزهراء عليها السلام فلم يشعروا معها بشعور زوجة الأب ولا فضلت أولادها عليهم، فكانت تشعرهم بأنها خادمة لهم راعية لشؤونهم وعلى هذه الروحية ربت أولادها الأربعة ومواقفهم وأقوالهم وأفعالهم يوم عاشوراء توضح هذه الحقيقة بشكل جلي.
كلمات قيلت في حق السيدة أم البنين عليها السلام
قال أبو النصر البخاري في كتابه (سر السلسلة العلوية): (لم يعقب أمير المؤمنين من فهرية بعد فاطمة عليها السلام إلا منها، ولم تخرج أم البنين إلى احد قبله ولا بعده) .
وقال الشيخ المامقاني في كتابه (تنقيح المقال): (ويستفاد من قوة إيمانها إن بشرا كلما نعى إليها احد أولادها الأربعة قالت ما معناه اخبرني عن الحسين فاخذ ينعي لها أولادها واحدا واحدا حتى نعى إليها العباس عليه السلام قالت: يا هذا قطعت نياط قلبي أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، فها هي كما ترى قد هان عليها قتل بنيها الأربعة إن سلم الحسين عليه السلام ويكشف هذا عن أن لها مرتبة في الديانة رفيعة) .
وقال النقدي في كتابه (زينب الكبرى): (كانت من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهم السلام كما كانت فصيحة بليغة لسنة ذات تقى وزهد وعبادة) .
ووصفها عمر كحالة في كتابه (أعلام النساء) بقوله: (شاعرة فصيحة) .
ونقل المازندراني في (معالي السمطين) نقلا عن كتاب (كنز المصائب) قائلا: (إن ولدها العباس عليه السلام اخذ علما جما في أوائل عمره عن أبيه وأمه) .
فائدة إحياء ذكرى السيدة أم البنين عليها السلام
إن إحياء ذكرى أم البنين عليها السلام وذكرى سائر المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين وذويهم ومن والاهم، كالعلماء والصالحين والصالحات، من أهم ما يلزم على المؤمنين القيام به والتشجيع عليه، وذلك لأجل تنظيم الحياة تنظيماً صحيحاً يوجب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، لما في هذه المناسبات من دروس وعبر.
ففي ذكرى أم البنين عليها السلام مثلا تتذكر النساء هذه المرأة الطاهرة، العفيفة الشريفة، الحافظة لنفسها، الذاكرة لله واليوم الآخر، المديرة لبيتها،المراعية لحقوق زوجها، المربية لأولاد صالحين و.. فتتعلم منها وتقتدي بها، فتطبق هذا المثال الطاهر على حياتها، وتعكس أخلاقها على بيتها، لتعيش حياة طيبة هانئة مستقيمة، وبذلك تسعد المرأة التي تلقت الدروس من مدرسة أم البنين عليها السلام واتبعتها، ويسعد بها غيرها من أولادها وذويها، فيكون الإحسان عائداً لنفسها قبل غيرها، قال سبحانه:(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها).
بالإضافة إلى أن ذكرى أم البني عليها السلام وذكرى العظماء رجالاً أو نساءً، موجب للأجر والثواب فقد ورد:«من ورّخ مؤمناً فكأنما أحياه»، فكما أن إحياء الإنسان يوجب الخيرات، كذلك إحياء ذكراه،قال تعالى:( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
بالإضافة إلى أن ذكرى الأخيار والخيّرات تملأ النفس الإنساني بالصحيح النافع والمنهج المسعد، والعكس بالعكس، وعندئذٍ تعكس النفس التي تلقت الذكرى شيئا من تلك الأسوة .. إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وهذا تكليف على كل إنسان بقدر وسعه، قال سبحانه:(لايكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها).
وعلى أي فسيرة العظيمات تربي العظيمات،، بل وحتى العظماء في الأمور المشتركة كالعبادة والزهد والتقوى، فسيرتهن تربية للرجال والنساء.. والبنين والبنات.. للبشرية جمعاء.
كرامة من كرامات هذه السيدة الطاهرة عليها السلام
كتب سماحة السيد جواد الموسوي الزنجاني أن ابنته عادت من المدرسة ذات يوم وهي تعاني من ألم شديد في رأسها، فأخذناها فورا إلى الطبيب ، ولكن مع الأسف لم يشخص مرضها وأعطاها أدوية ومسكنات وقال إن تدهورت حالتها الصحية انقلوها إلى المستشفى فأنا هناك، وفي منتصف الليل ساءت صحتها وإلى أن تم نقلها إلى المستشفى دخلت في الإغماء واشتد بنا الخوف والقلق على حياتها. فاجتمعت اللجنة الطبية واستدعت أيضاً من خارج المستشفى بعض الأخصائيين لدراسة الموقف. وتبين بعد ذلك انها مصابة بالتهاب شديد في المخ. واستيأس الأطباء بعد معرفتهم لهذا المرض الخطير، وأدى يأسهم إلى ارتفاع أصوات البكاء والعويل في العائلة، صغيرنا وكبيرنا أجهشوا بالنحيب.
ورغم كل الجهود كانت إبنتي مستمرة في الإغماء والأمل في شفائها ضعيف بل عديم طبياً، استمرت هذه الحالة أسبوعا واحداً حتى صادفت نهاية الأسبوع ليلة تاسوعاء. فلما فقدت الأمل من المستشفى وكانت العائلة تستعد للعزاء فلا تهدأ من الحزن والبكاء، هنالك قمت إلى الصلاة بقلب حزين منكسر، فصليت ركعتين وقرأت بعد السلام مائة مرة صلوات على النبي محمد وآله وأهديت ثوابها إلى السيدة أم البنين عليها السلام، أم السيد أبي الفضل العباس قمر بني هاشم عليه السلام ثم خاطبتها قائلاً: بما أن الولد الصالح مطيع لأمه، فإني أطلب منك أيتها المرأة العظيمة يا زوجة أمير المؤمنين علي عليه السلام أن تطلبي من ولدك باب الحوائج بأن يأخذ من الله تعالى شفاء ابنتي. وعند الصباح رن الهاتف .. قال أحد المسؤولين في المستشفى أن ابنتكم خرجت من الإغماء وصحتها جيدة جداً وكأنه ليست مريضة أصلا.
أسرعنا إلى المستشفى، فرأيناها في صحة كاملة وهذا في الوقت الذي كان الأطباء قد أكدوا أنها حتى إذا شفيت فانه فسيذهب عنها بصرها وسمعها أو تقع مشلولة. ولكن من بركة باب الحوائج ام البنين عليها السلام فإن ابنتي خرجت سالمة من غير نقص ولا أي أثر لتلك الأزمة في بدنها، والآن هي متزوجة ولديها طفلان على أحسن ما يكون.
فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حية ورزقنا الله إتباعها وشفاعتها بقضاء حوائجنا الدنيوية والأخروية آمين رب العالمين.
المصادر
1: سر السلسلة العلوية ص88.
2: تنقيح المقال ج3 باب من روين الحديث.
3: زينب الكبرى للنقدي ص88.
4: أعلام النساء ج4 ص40.
5: معالي السمطين ج1 ص31.
قد ورد في الحديث الشريف إشارات وتنبيهات على ان الرجال قد كمل منهم الكثير، ولم يكمل من النساء إلا القليل، وأم البنين عليها السلام كانت ولا شك ممن كملت محاسنها وترقت فضائلها لتصبح أهلا لان تكون بابا للحوائج يتوجه إليها كل محتاج ومكروب، ولم تكن هذه المنزلة لتتسنى لها من دون سعي شخصي وكدح نحو الكمال والترقي في سلم ودرجات الإيمان ومن دون نشأة حسنة وتربية طاهرة تلقتها من بيتها وأسرتها التي نشأة في ربوعها، ومن دون عناية واهتمام وتربية وتكفل الإمام المعصوم لها، ومن دون رعاية الله سبحانه لها أولا وآخرا، فهي أشبه شيء بمريم ابنة عمران عليها السلام فقد أنبتها الله منبتا حسنا، كما انبت مريم منبتا حسنا، وقد كفلها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما كفل زكريا مريم بنت عمران، واصطفاها لتنجب أربعة أبطال شاركوا أخاهم الحسين عليه السلام نصرته وإحياء شريعة الله سبحانه، بعد ان كادت تموت على يد الأمويين ومن سبقهم من الحكام، كما اصطفى مريم بنت عمران لتنجب نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، الذي أحيا دين الله وشريعته التي أماتتها اليهود وضيعت أحكامها.
أم البنين عليها السلام الولادة والمنشأ
الاسم: فاطمة.
الأب: حزام وهو أبو المحل بن خالد ابن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب.
الأم: ثمامة بنت سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.
وأمّ البنين عليها السلام تنحدر من آباء وأخوال عرفهم التاريخ وعرّفهم بأنّهم فرسان العرب في الجاهليّة، سطّروا على تلك رمال الصحراء الأمجاد المعروفة في المغازي فتركوا الناس يتحدثون عن بسالتهم وسؤددهم، حتّى أذعن لهم الملوك، وهمُ الذين عناهم عقيلُ بن أبي طالب بقوله لأخيه الإمام عليّ سلام الله عليه: (تزوج أم البنين الكلابية فانه ليس في العرب أشجع من آبائها).
اللقب: أم البنين، وقد غلبت كنيتها عليها السلام على اسمها، ولعل ذلك يعود إلى أمرين مهمين:
الأول: لأنّها كُنّيت بـ « أمّ البنين » تشبّهاً بجدّتها ليلى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، حيث كان لها خمسة أبناء أكبرهم أبو براء مُلاعب الأسنّة، وقد قال لبيد الشاعر للنعمان ملك الحيرة مفتخراً بنسبه ومشيراً إليها:
نحن بني أم البنين الأربعة * الضاربون الهام تحت الخيضعة
والمطعمون الجفنة المدعدعة * ونحن خير عامر بن صعصعة
الثاني: هو التماسها أن يقتصر أميرُ المؤمنين عليه السّلام في ندائِه عليها، على الكنية، لئلاّ يتذكّر الحسنانِ عليهما السّلام أمَّهما فاطمة صلوات الله عليها يوم كان يناديها في الدار، إذْ أنّ اسم أمّ البنين كما مر هو فاطمة بنت حزام.
أم البنين تداوي جراح أيتام الزهراء عليها السلام
كان أيتام الزهراء عليها السلام لهم في كل زاوية من زوايا البيت ذكرى تشدهم إلى أمهم الشهيدة، وحيث ما يلتفتون يرون أثرا من آثارها، فهنا كانت تمشط شعر الحسنين وهي تقرأ لهم القران بصوتها الحزين الخاشع، وهناك تروي لبناتها بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعلمهم بعض الأحكام، وهناك كانت تصلي وتدعوا وتسبح وتبكي، وهنا كانت تطبخ وتدير الرحى.
وهنالك مكان بقي عالقا بجميع تفاصيله في أذهان أولاد الزهراء عليها السلام هذا المكان الذي كلما نظر إليه أبناء السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء دمعت عيونهم وخنقتهم العبرة، هذا المكان هو باب الدار وبالتحديد خلف باب الدار، فجميعهم كان شاهدا حين كان أفراد هذا البيت الطاهر عليهم السلام في سكينة من أمرهم وإذا بالناس يجتمعون حول بابهم ثم يعلوا اللغط والصياح شيئا فشيئا، ثم تبدأ طرقات مجنونة تقع على الباب، ويعلو من بينها صياح رجل يهدد بإخراج أمير المؤمنين عليه السلام أو الدخول عنوة إلى الدار وإحراق البيت على من فيه، والأطفال يلوذون تارة خلف أبيهم وأخرى خلف أمهم، وإذا بالباب تدفع دفعا قويا والنار والدخان يتصاعدان منها، وإذا بهم ينظرون إلى أمهم الزهراء عليها السلام تنبري مسرعة خلف الباب عسى ان تمنع القوم من دخول واقتحام الدار بهذه الطريقة البربرية.
فبينما هي تكلمهم وتدفع الباب بيدها وكتفها لتحول دون دفعها وكسرها، فلما أحس القوم بوجودها حشدوا كل ما عندهم من قوة فدفعوا الباب دفعة كسروها وياليتهم اقتصروا على كسر تلك الباب التي كان يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلما مستأذنا قبل الدخول، غير انهم كسروا مع تلك الباب أضلاع البتول عليها السلام، وأطفال الزهراء عليها السلام يستمعون كيف صارت أمهم تستغيث ولا تغاث وتسترحم ولا من راحم، وتستغيث بفضة خادمتها قائلة يا فضة أدركيني فقد والله اسقطوا جنيني.
ولم تقف ذكريات أولاد الزهراء عليها السلام عند هذا الحد فقد استمرت ليروا أباهم واضعا أمهم الزهراء وهي في ريعان الشباب ومقتبل العمر على مغتسلها يقلبها وهو ينظرون وينتظرون في وجل وخوف تلك اللحظات التي ستحمل أمهم من أمام أعينهم لتودع في حفرتها وملحودة قبرها، وتغيب عن نواظرهم، والأوجع لقلوبهم ان الأطفال كل الأطفال إذا ما ماتت أمهم فان باستطاعتهم زيارة قبرها متى ما أرادوا وأحبوا إلا أن أولاد البتول عليها السلام محرومون من هذه الخصلة فلم يكن باستطاعتهم زيارة قبر أمهم إلا في السر وتحت طوق شديد من السرية والتكتم.
في ظل هذه الأحزان والذكريات دخلت السيدة أم البنين عليها السلام دار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فكانت المرأة المواسية والمخففة لآلام وأوجاع قلوب أيتام الزهراء عليها السلام فلم يشعروا معها بشعور زوجة الأب ولا فضلت أولادها عليهم، فكانت تشعرهم بأنها خادمة لهم راعية لشؤونهم وعلى هذه الروحية ربت أولادها الأربعة ومواقفهم وأقوالهم وأفعالهم يوم عاشوراء توضح هذه الحقيقة بشكل جلي.
كلمات قيلت في حق السيدة أم البنين عليها السلام
قال أبو النصر البخاري في كتابه (سر السلسلة العلوية): (لم يعقب أمير المؤمنين من فهرية بعد فاطمة عليها السلام إلا منها، ولم تخرج أم البنين إلى احد قبله ولا بعده) .
وقال الشيخ المامقاني في كتابه (تنقيح المقال): (ويستفاد من قوة إيمانها إن بشرا كلما نعى إليها احد أولادها الأربعة قالت ما معناه اخبرني عن الحسين فاخذ ينعي لها أولادها واحدا واحدا حتى نعى إليها العباس عليه السلام قالت: يا هذا قطعت نياط قلبي أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، فها هي كما ترى قد هان عليها قتل بنيها الأربعة إن سلم الحسين عليه السلام ويكشف هذا عن أن لها مرتبة في الديانة رفيعة) .
وقال النقدي في كتابه (زينب الكبرى): (كانت من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهم السلام كما كانت فصيحة بليغة لسنة ذات تقى وزهد وعبادة) .
ووصفها عمر كحالة في كتابه (أعلام النساء) بقوله: (شاعرة فصيحة) .
ونقل المازندراني في (معالي السمطين) نقلا عن كتاب (كنز المصائب) قائلا: (إن ولدها العباس عليه السلام اخذ علما جما في أوائل عمره عن أبيه وأمه) .
فائدة إحياء ذكرى السيدة أم البنين عليها السلام
إن إحياء ذكرى أم البنين عليها السلام وذكرى سائر المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين وذويهم ومن والاهم، كالعلماء والصالحين والصالحات، من أهم ما يلزم على المؤمنين القيام به والتشجيع عليه، وذلك لأجل تنظيم الحياة تنظيماً صحيحاً يوجب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، لما في هذه المناسبات من دروس وعبر.
ففي ذكرى أم البنين عليها السلام مثلا تتذكر النساء هذه المرأة الطاهرة، العفيفة الشريفة، الحافظة لنفسها، الذاكرة لله واليوم الآخر، المديرة لبيتها،المراعية لحقوق زوجها، المربية لأولاد صالحين و.. فتتعلم منها وتقتدي بها، فتطبق هذا المثال الطاهر على حياتها، وتعكس أخلاقها على بيتها، لتعيش حياة طيبة هانئة مستقيمة، وبذلك تسعد المرأة التي تلقت الدروس من مدرسة أم البنين عليها السلام واتبعتها، ويسعد بها غيرها من أولادها وذويها، فيكون الإحسان عائداً لنفسها قبل غيرها، قال سبحانه:(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها).
بالإضافة إلى أن ذكرى أم البني عليها السلام وذكرى العظماء رجالاً أو نساءً، موجب للأجر والثواب فقد ورد:«من ورّخ مؤمناً فكأنما أحياه»، فكما أن إحياء الإنسان يوجب الخيرات، كذلك إحياء ذكراه،قال تعالى:( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
بالإضافة إلى أن ذكرى الأخيار والخيّرات تملأ النفس الإنساني بالصحيح النافع والمنهج المسعد، والعكس بالعكس، وعندئذٍ تعكس النفس التي تلقت الذكرى شيئا من تلك الأسوة .. إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وهذا تكليف على كل إنسان بقدر وسعه، قال سبحانه:(لايكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها).
وعلى أي فسيرة العظيمات تربي العظيمات،، بل وحتى العظماء في الأمور المشتركة كالعبادة والزهد والتقوى، فسيرتهن تربية للرجال والنساء.. والبنين والبنات.. للبشرية جمعاء.
كرامة من كرامات هذه السيدة الطاهرة عليها السلام
كتب سماحة السيد جواد الموسوي الزنجاني أن ابنته عادت من المدرسة ذات يوم وهي تعاني من ألم شديد في رأسها، فأخذناها فورا إلى الطبيب ، ولكن مع الأسف لم يشخص مرضها وأعطاها أدوية ومسكنات وقال إن تدهورت حالتها الصحية انقلوها إلى المستشفى فأنا هناك، وفي منتصف الليل ساءت صحتها وإلى أن تم نقلها إلى المستشفى دخلت في الإغماء واشتد بنا الخوف والقلق على حياتها. فاجتمعت اللجنة الطبية واستدعت أيضاً من خارج المستشفى بعض الأخصائيين لدراسة الموقف. وتبين بعد ذلك انها مصابة بالتهاب شديد في المخ. واستيأس الأطباء بعد معرفتهم لهذا المرض الخطير، وأدى يأسهم إلى ارتفاع أصوات البكاء والعويل في العائلة، صغيرنا وكبيرنا أجهشوا بالنحيب.
ورغم كل الجهود كانت إبنتي مستمرة في الإغماء والأمل في شفائها ضعيف بل عديم طبياً، استمرت هذه الحالة أسبوعا واحداً حتى صادفت نهاية الأسبوع ليلة تاسوعاء. فلما فقدت الأمل من المستشفى وكانت العائلة تستعد للعزاء فلا تهدأ من الحزن والبكاء، هنالك قمت إلى الصلاة بقلب حزين منكسر، فصليت ركعتين وقرأت بعد السلام مائة مرة صلوات على النبي محمد وآله وأهديت ثوابها إلى السيدة أم البنين عليها السلام، أم السيد أبي الفضل العباس قمر بني هاشم عليه السلام ثم خاطبتها قائلاً: بما أن الولد الصالح مطيع لأمه، فإني أطلب منك أيتها المرأة العظيمة يا زوجة أمير المؤمنين علي عليه السلام أن تطلبي من ولدك باب الحوائج بأن يأخذ من الله تعالى شفاء ابنتي. وعند الصباح رن الهاتف .. قال أحد المسؤولين في المستشفى أن ابنتكم خرجت من الإغماء وصحتها جيدة جداً وكأنه ليست مريضة أصلا.
أسرعنا إلى المستشفى، فرأيناها في صحة كاملة وهذا في الوقت الذي كان الأطباء قد أكدوا أنها حتى إذا شفيت فانه فسيذهب عنها بصرها وسمعها أو تقع مشلولة. ولكن من بركة باب الحوائج ام البنين عليها السلام فإن ابنتي خرجت سالمة من غير نقص ولا أي أثر لتلك الأزمة في بدنها، والآن هي متزوجة ولديها طفلان على أحسن ما يكون.
فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حية ورزقنا الله إتباعها وشفاعتها بقضاء حوائجنا الدنيوية والأخروية آمين رب العالمين.
المصادر
1: سر السلسلة العلوية ص88.
2: تنقيح المقال ج3 باب من روين الحديث.
3: زينب الكبرى للنقدي ص88.
4: أعلام النساء ج4 ص40.
5: معالي السمطين ج1 ص31.
0 التعليقات :
إرسال تعليق